تقتضي دراسة حق الاستعانة بمحامي في القانون الكويتي التعرض لموقف المشرع لهذا الحق خلال المراحل المختلفة لعملية الملاحقة الجزائية، أيا كانت طبيعة هذه المراحل، سواء كانت مرحلة سابقة على بدء الدعوى الجزائية أم كانت مرحلة من مراحلها. وحيث إن قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي قد قسم هذه المراحل إلى ثلاث: مرحلة البحث والتحري (جمع الاستدلالات)، ومرحلة التحقيق الابتدائي، ومرحلة التحقيق النهائي (المحاكمة).
الأساس القانوني للحق في الاستعانة بمحام وأهميته
إن الغاية النهائية من فرض قواعد الإجراءات الجزائية، هي توفير العدالة أيا كانت نتيجتها، سواء كانت في اتجاه البراءة أم الإدانة، ومن هنا تبرز أهمية مبدأ المحاكمة العادلة الذي يرتكز على عنصر رئيسي، وهو كفالة حق الدفاع لمن توجه ضده هذه الإجراءات، ومن يتحمل تبعاتها. وبناء عليه، ينبغي تأكيد أنه إذا كانت ممارسة حق الدفاع مسالة تتعلق بمصلحة عامة، وهي تحقيق العدالة، فان من يتولى مهمة الذود عن مصالح المتهم وحقوقه قد يساعد -أحيانا –على تحقيق هذه المصلحة، وذلك عن طريق تمكين قضاء الحكم من استخلاص الحقيقة الموضوعية والقانونية، خصوصا إذا كانت هذه الحقيقة ترتب براءة المتهم أو نفي التهمة عنه. لذلك، يمكن القول إن دور من يدافع عن المتهم هو مد أواصر التعاون مع كل من قضاء التحقيق وقضاء الحكم، للوصول إلى الحقيقة في حدود مصلحة من يمثله.
ويعتبر حق الاستعانة بمحام حقا أصيلا للمتهم لضمان دفاعه ” حيث إن المتهم -مهما كانت ثقافته أو ذكاؤه -قد لا يكون لديه القدرة على الإلمام بنصوص القانون وأحكامه، ولاسيما الإجرائية. أضف إلى ذلك، أن رهبة الاتهام قد تؤدي دورا في التأثير سلبا على المتهم ” الأمر الذي يدعم ويؤكد حقيقة العلاقة التي تربط بين حق الدفاع وحق الاستعانة بمحام، إذ يعتبر هذا الأخير وسيلة فعالة ورئيسية لكفالة الأول وتحقيق المحاكمة العادلة. وللحق في الاستعانة بمحام ثمة فوائد أخرى ” فمن ناحية، يكمن دور المحامي الرئيسي في الإجراءات الجزائية بتعريف المتهم بحقوقه ورقابة أي مخالفة قانونية تنصب لمصلحته. كما أن هذا الحق قد يكون -بشكل أو بآخر -وسيلة مساعدة وعون للقضاء في استنباط المبادئ القانونية التي تحقق المثل العليا للعدالة، والتي من المتصور أن تكون غائبة في بعض الأحيان عن ذهن المحكمة.
كما أن هذا الحق يؤدي دورا وقائيا يتمثل في منع المتهم من إتيان سلوك مضر به في الدعوى الجزائية، وهذا ما يبرر أحيانا تطلب المشرع القيام ببعض إجراءات الدعوى الجزائية في ظل وجود محامي المتهم والا بطل الإجراء لجوهريته وجسامة ما قد يترتب عليه من آثار بالغة الخطورة على المتهم، كما هو الحال بالنسبة لإجراء الاستجواب في القانون المصري
ومما لا شك فيه أن أهمية الحق في الاستعانة بمحام يبرهن عليه ورود هذا الحق بالديانات السماوية وأسمى المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية. وقد كان لشريعتنا الإسلامية الغراء السبق في إقرار مثل هذه الحقوق نظرا لأهميتها ) أما على الصعيد الدولي، فنجد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948بتوصية من الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، يعتبر من أبرز الوثائق التي نصت على هذا الحق. فقررت المادة (11/1) من الإعلان أن “كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونيا بمحاكمة علنيه تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه “.
كما أن هذا الحق قد ورد النص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 . حيث قررت المادة(14/3/د) على أن “لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية: د) أن يحاكم حضورياً، وأن يدافع عن نفسه بشخصه، أو بواسطة محام من اختياره، وأن يخطر بحقه في وجود من يدافع عنه إذا لم يكن له من يدافع عنه، وأن تزوده المحكمة -كلما كانت مصلحة العدالة تقتضي ذلك-بمحام يدافع عنه، دون تحميله أجرأ على ذلك، إذا كان لا يملك الوسائل الكافية لدفع هذا الأجر”. أما على الصعيد الاقليمي، فقد نص على الحق ذاته في الميثاق العربي لحقوق الانسان الصادر عن منظمة جامعة الدول العربية
أما على الصعيد الوطني: فقد نص على هذا الحق في أسمى وثيقة قانونية على الاقليم الكويتي وهو الدستور الكويتي الصادر عام 1962. حيث قررت المادة (34/1) من الباب الثالث منه الخاص بالحقوق والواجبات العامة على أن ” المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع….” ولا نزاع في أن من أهم وسائل حق الدفاع هو حق المتهم في الاستعانة بمحام أثناء محاكمته. ويضاف إلى هذا النص، النصوص القانونية المتفرقة التي جاءت في قانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية رقم 17/1960.
طالع ايضا : تطبيقات مميزة يجب أن تكتشفها بنفسك
حق الاستعانة بمحام في مرحلة جمع الاستدلالات
مما لا شك فيه أن التشريع ليس وحده كفيلا بتحقيق العدالة التي هي الغاية النهائية للمجتمع من جراء عملية الملاحقة الجزائية، لذلك فان المحكمة وحدها لن تكون قادرة على تحقيق هذه الغاية المجتمعية، ما لم تكن هناك أجهزة أخرى تعين المحكمة على استيضاح الحقيقة الموضوعية للواقعة محل الدعوى الجزائية. ويعتبر جهاز الضابطة القضائية من أهم الأجهزة العامة المعنية بأداء دور المساعد الرئيسي في تحقيق العدالة، عن طريق إزالة ذلك الغموض الذي قد يعتري -أحيانا -الواقعة محل الدعوى.
في سبيل بلوغ هذه الغاية، نجد أن غالبية التشريعات الإجرائية الجزائية تنظم مراحل سابقة أو ممهدة لبدء الدعوى الجزائية أو تحريكها، بحيث يكون الغرض من هذه المراحل إعداد ملف القضية إعدادا كاملا بعد تمحيص الأدلة والبراهين قبل الزج بأشخاص أبرياء أمام المحاكم واحراجهم اجتماعيا. وفي القانون الكويتي، أضحت مرحلتا جمع الاستدلالات ومرحلة التحقيق الابتدائي تمثل السد المنيع الذي من شانه تحقيق غاية صون الشخص البريء من اتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة، إلا في ذهن المجني عليه المتوهم أو المتبلي. ومما هو مستقر عليه قانونا، أنه خلال هاتين المرحلتين، لا يجوز لسلطات الضابطة القضائية اتخاذ أية إجراءات بحق مشتبه به إلا بعد قيام العلم لديها بأن هناك جريمة قد ارتكبت بالفعل، وهذا ما يميز هاتين المرحلتين- باعتبارهما من أعمال الضبطية القضائية – عن أعمال الضبطية الإدارية التي تأتي سابقة على ارتكاب الجريمة، بحيث تهدف إلى أداء الدور الوقائي المتمثل في منع وقوع الجريمة .
وفي تحديد مفهوم مرحلة جمع الاستدلالات ( ، ينبغي التأكيد في البداية أن هذه المرحلة لا تعد من مراحل الدعوى الجزائية، بل هي مرحلة سابقة على بدء الدعوى الجزائية أو تحريكها. لذلك، في سبيل الوصول إلى تحديد معالم وحدود هذه المرحلة، هناك من الفقه ما يرسم تلك المعالم بتعريف محدد وواضح، بينما يكتفي اتجاه آخر من الفقه بتحديد ما يدخل في واجبات رجل الضبطية القضائية خلال هذه المرحلة، دون بيان تعريف متضمن عناصر أو خصائص لهذه المرحلة.
الاتجاه الأول من الفقه يرى أن مرحلة البحث والتحري عبارة عن ” مجموعة من الإجراءات الأولية السابقة على تحريك الدعوى الجزائية، وتهدف في مجموعها إلى التأكد والتثبت من وقوع الجريمة، وجمع معلومات كافية عنها، بحيث تمكن سلطة التحقيق من التصرف النهائي في الواقعة ” )، بينما يرى جانب آخر من الفقه أن هذه المرحلة تتحدد معالمها وحدودها من وقت ارتكاب الجريمة إلى ما قبل قرار سلطة التحقيق، بفتح التحقيق في الواقعة الإجرامية المرتكبة، وجوهر هذه المرحلة البحث والتحري عن الجريمة ومرتكبها، وكل ما من شانه تحقيق فائدة لسلطة التحقيق في كشف الحقيقة الموضوعية بخصوص الواقعة الإجرامية.
ونظم قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي مرحلة جمع الاستدلالات بالمواد (39-47). حيث قررت المادة (39/1) أن ” الشرطة تتولى: أولا: إجراء التحريات اللازمة للكشف عن الجريمة ومعرفة مرتكبيها، وجمع كل ما يتعلق بها من معلومات لازمة “.
كما نصت المادة (40) من ذات القانون على ضرورة إفراغ رجل الشرطة كل ما تم جمعه من معلومات متعلقة بالجريمة في محضر يسمى محضر التحري. ورغم أن هذه المرحلة -كما سبق بيانه -لا تدخل ضمن مراحل الدعوى الجزائية، ولا يجوز للمحكمة أن تعتمد في تأسيس حكم إدانتها للمتهم -حصرا -على ما تم جمعه من معلومات خلال هذه المرحلة،إلا أن هذه المرحلة لا تخلو من أهمية.
فمرحلة جمع الاستدلالات تسمح -بلا شك -لسلطة التحقيق بحفظ العديد من الشكاوى التي لا تجد أساسا في القانون أو الواقع، مما يسهم في تقليل عدد الدعاوى الكيدية ” الأمر الذي يعود في النهاية بالنفع العام على نظام الملاحقة الجزائية، عن طريق توفير الوقت والجهد من قبل أعضاء سلطة التحقيق والمحاكمة، على حد سواء. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن هذه المرحلة تعد مرحلة تسمح لسلطة التحقيق في تقدير ملاءمة تحريك الدعوى الجزائية من عدمه، في وقت سابق على قرار هذه السلطة، بفتح التحقيق بالواقعة موضوع الشكوى أو البلاغ . ومن ناحية أخرى، فان رجال الشرطة عند قيامهم بأعمال الضبط القضائي خلال هذه المرحلة، يتميزون على أعضاء سلطات التحقيق والمحاكمة بنشاط وفاعلية أ كثر، بسبب أنهم أكثر وأسرع اتصالا بالجمهور” مما يسهم في فك طلاسم اللعبة الإجرامية بشكل أسرع، ومن ثم يعزز في النهاية ثقة الرأي العام في نظام الملاحقة الجزائية.
ونظرا لما يترتب على إجراء البحث والتحري -كأحد إجراءات مرحلة جمع الاستدلالات -من خطورة بالغة تتمثل في المساس بحقوق الأفراد
وحرياتهم ، كان لزاما على رجل الضبط القضائي أن يتوخى الحذر ويحرص على الدقة، وأن يتمتع بالأمانة والصدق فيما يقوم به من إجراء، وما يتوصل إليه من معلومة.
وبناء على مدى أهمية مرحلة جمع الاستدلالات، ثار الخلاف الفقهي بين مؤيد ومعارض، بشأن مدى إمكانية تمتع المشتبه به في الحق في الاستعانة بمحام خلال هذه المرحلة. فيرى الاتجاه المعارض لمسالة تمكن المشتبه به من اصطحاب محاميه خلال مرحلة جمع الاستدلالات، أن هذه المرحلة لا تعد مرحلة هامة، الأمر الذي تنتفي معه الحاجة لقيام الحق في الاستعانة بمحام خلالها. فمن جانب، تتضاءل أهمية هذه المرحلة ” لأنها لا تعد من مراحل الدعوى الجزائية، بل هي مرحلة ممهدة لها، ومن ثم يخلص -أنصار هذا الاتجاه -إلى أن هذه المرحلة لا يتولد عنها دليل معتبر في مرحلة المحاكمة، ولا تعتبر محاضر التحري التي تحرر بشأن ما تم فيها من إجراءات حجة أمام القضاء، إلا في أحوال استثنائية. ويضيف أنصار هذا الرأي أن هذه المرحلة واجراءاتها تخضع لإشراف ورقابة سلطات التحقيق، الأمر الذي يتيح لهذه الأخيرة تقدير مدى صحة الإجراءات، ومدى الحاجة إلى إعادة الإجراء مرة أخرى في مرحلة التحقيق الابتدائي، وهي مرحلة يكون فيها الحق في الاستعانة بمحام مكفولا.
ويدعم أنصار الرأي المعارض اتجاههم -بشأن عدم أهمية هذه المرحلة-بالقول إن من المستقر عليه قانونا، أنه خلال هذه المرحلة لا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتخذ أي إجراء ماس بحرية المشتبه به، ومن ثم تصبح الحاجة إلى حضور المحامي خلال هذه المرحلة بلا مبرر أو معنى. وأخيرا، يؤكد مؤيدو هذا الاتجاه أن حضور محامي المشتبه به خلال هذه المرحلة من شانه عرقلة عمل مأمور الضبط القضائي، والتأثير سلبا على عملية البحث والتحري وجمع الأدلة، لأن هذا الحضور قد يساعد على الاطلاع على خطوات هذه العملية، مما قد يساهم -في بعض الأحيان -في إخفاء بعض الأدلة، فضلا عن أن حضور المحامي مع المشتبه به خلال هذه المرحلة قد يؤدي دورا في التأثير على المتهم عن طريق الايحاء له بالامتناع عن الرد على الأسئلة الموجهة له من قبل مأمور الضبط القضائي.
بينما -على النقيض من ذلك -يقر جانب من الفقه بأحقية المشتبه به خلال هذه المرحلة باصطحاب محاميه، وذلك استنادا إلى حجج متنوعة أيضا. فمن ناحية أولى، يعد حضور المحامي خلال هذه المرحلة، إلى جانب المشتبه به، وسيلة فعالة تمنع مأمور الضبط القضائي من اتخاذ أي إجراء تعسفي بحق المشتبه به.
ومن ناحية ثانية، حضور المحامي مع المشتبه به يعزز الشعور بالثقة والأمان لدى المشتبه به. وأخيرا، فان هذا الحضور من شانه تمكين المشتبه به من الدفاع عن نفسه بعيدا عن الضغوط النفسية. وبناء على ما سبق عرضه، يمكن القول كخلاصة بأن حجج الرأي الثاني المؤيد لإقرار الحق في الاستعانة بمحام ترتكز على اعتبار أساسي، وهو أن هذا الحق يعزز كفالة حق الدفاع خلال هذه المرحلة.
طالع ايضا : الزوجة الجميلة
واستنادا إلى حقيقة، وهي أن لكل رأي وجاهته، فان التشريعات الإجرائية الجزائية المقارنة حيال هذه المسالة قد انقسمت إلى ثلاث طوائف، بحسب الفلسفة التشريعية المتبناة. فالطائفة الأولى من التشريعات، وقفت صامتة حيال هذه المسالة، كالتشريع السعودي والفرنسي، والألماني، والإنجليزي، والمصري، والليبي . بينما نصت الطائفة الثانية من التشريعات على تمكين المشتبه به من التمتع بهذا الحق خلال هذه المرحلة، مثل التشريع الياباني، واليوناني، والإيطالي أما الطائفة الثالثة من التشريعات، فقد حرمت المشتبه به صراحة من هذا الحق خلال هذه المرحلة، كالتشريع الروسي، والسوداني
أما في شان موقف المشرع الكويتي حيال مسألة تمتع المشتبه به خلال مرحلة جمع الاستدلالات بالحق في اصطحاب محاميه، فقد سار قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية على نهج الطائفة الأولى من التشريعات. فلم يرد نص صريح يعالج هذه المسالة، سواء من حيث تمكين المتهم من ممارسة هذا الحق، أو فرض التزام على السلطة بتوفير هذا الحق على نفقتها” مما يترتب على هذا السكوت جعل مسالة التمتع بهذا الحق رهنا بالسلطة التقديرية لمأمور الضبط القضائي الذي يتولى إدارة هذه المرحلة. وما يجري عليه الواقع العملي أن المشتبه به لا يتمتع بهذا الحق خلال هذه المرحلة، كما أن أحكام القضاء قد استقرت على أن منع المحامي من الحضور مع المشتبه به أثناء مرحلة جمع الاستدلالات لا يترتب عليه بطلان محضر التحري.