شاع مصطلح “تنمية الذات” و لايف كوتش في عصرنا هذا شيوعًا كبيرًا، وتناقلته الألسن والأقلام، وعقدت لأجله المؤتمرات والندوات والدورات، حتى تبنت منظمة اليونسكو الدعوة إلى هذا العمل الإيجابي الكبير في إحدى دوراتها.
وتنمية الذات موقف إيجابي رفيع تجاه النفس يهتم صاحبه بإبراز ما يمكنه من مهاراته وإمكاناته الشخصية المتعلقة بالحياة العملية، وفي المقابل فإن الغفلة والإهمال في هذا الجانب لا يحولان دون تقدم الإنسان وتطور قدراته فقط، ولكنهما يهدران القائم من إمكاناته ويحولانها أثرًا بعد عين كذلك.
الموقف الإيجابي
وموقف الإنسان الإيجابي من نفسه محمود في الإسلام أي حمد، بل إن الشريعة برمتها قائمة على تفعيل طاقات الإنسان النفسية والعقلية والبدنية وتوجيهها وجهة تعطي الفرد والجماعة أكبر قدر من الخير الديني والدنيوي، وتتجنب قدر المستطاع السلبيات والشرور الناجمة عن التفاعل والاحتكاك مع الناس، بما فيهم من نوازع وما يتبنونه من مواقف.
طالع ايضا : التنمر بين الاطفال الاسباب والحلول
ومن الأمثلة القرآنية البسيطة والبارزة على هذا التفعيل ما نفتتح به قراءتنا للقرآن الكريم من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، عملًا بقوله تعالى:
{فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) فالعبارة تضع أمام الشخصية المسلمة تحديا من عدو خفي لا يراه الإنسان بعينيه؛ وبسبب الطبيعة الخاصة للمعركة مع هذا العدو الذي يسعي إلى السيطرة على الشخصية البشرية والتأثير سلبًا في توجهاتها وسلوكها، فلابد من الاستعانة عليه برب الخلق جميعًا ظاهرهم وخفيهم.
وليست الاستعانة هنا مجرد ألفاظ ترددها الألسن أو تراتيل يترنم بها العابد؛ إذ إن الشريعة لا تعترف بتدين لا يعدو أن يكون مجموعة من الرسوم والصور الظاهرية، بل تعده غشا عينا، وإنما الاستعانة والاستعاذة المقصودة ألفاظ تترجم عن كينونة منقادة لأمر الله الذي تطلب حمايته ومهمة هذا الجانب اللفظي هو تجديد التذكير بالبرنامج الإيماني برمته؛ حتى يحترز صاحبه مما ينتظره في طريقه من العوائق والمعاطب.
ويمكن أن نعد “تزكية الذات” صورة مهمة لإيجابية الإنسان تجاه نفسه، أو أنها صورة لتنمية الذات المؤمنة متكئة على الإسلام الحنيف وتعاليمه الراقية.
معنى تزكية الذات
يرد مصطلح “تزكية النفس” في بعض آيات القرآن الكريم باعتباره موقفًا سلبيًا وغير دقيق من النفس، حيث يثني الإنسان على نفسه ويمدح عمله غير ناسب الفضل إلى الله تعالى، وهذا من أكبر المعوقات أمام تصاعد الإنسان وترقية في سلم العبادة والطاعة؛ لأن الرضا عن النفس بهذه الصورة يفقد صاحبه معية الله تعالى، كما أنه يقعد بهمته، يقول الله تعالي في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (النساء: 49) ويقول في سورة النجم: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32).
إلا أن هذا المعني لتزكية النفس ليس مقصودنا هنا؛ لأنه يحمل معني مدح النفس والثناء عليها وإسناد الفضل إليها فيما ينجزه الإنسان من عمل قال ابن كثير في تفسير آية سورة النجم السابقة: “فلا تزكوا أنفسكم؛ أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم”(1).
أما المعني الذي تعنيه هذه السطور تزكية الذات، فهو بعيد عن مدح النفس وتحسين صورتها عند الآخرين، فذاك عمل سلبي، وإنما قصد تزكية الذات هنا: توظيف تعاليم الإسلام وتشريعاته في الارتقاء بالنفس وتطهيرها من العوائق التي تعرقل مسيرتها الممتازة في الحياة؛ مرتبطة بالله تعالى خالق الوجود وبمنهجه العظيم.
الأصل القرآني
وهل لذلك المعني من تزكية الذات أو النفس أصل قرآني؟ وردت “التزكية” بالمعني الإيجابي في القرآن الكريم باعتبارها مهمة من مهمات النبوة الأساسية التي يقوم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أمته. ثم من يخلفه فيهم من علماء المسلمين وصالحيهم – أكثر من مرة، ومنها قول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164)، فالتزكية هنا: التطهير، ولكن يقوم بها مرب ومعلم، وليست من أعمال الإنسان الذاتية تجاه نفسه.
وأما المعنى الذي تقوم عليه هذه السطور من تزكية النفس، فنصادفه في آيات أخرى؛ منها قول الله تعالى: {ومَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (طه: 75 – 76)، وقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 108)، وقال تعالى: {ومَن تَزَكَّى فَإنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} (فاطر: 18)، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى: 14)، وفي تفسير الآية الأخيرة يقول إمام المفسرين أبوجعفر الطبري: “قد نجح، وأدرك طلبته من تطهر من الكفر ومعاصي الله، وعمل بما أمره الله به، فأدى فرائضه”(2)
وسائل التزكية
خلصنا مما سبق إلى أن التزكية الذاتية هي عمل إيجابي يقوم به المؤمن تجاه نفسه؛ حتى تكون أكثر انضباطًا وموافقة لمنهج الله تعالى في طريقة عيشها واختيار مواقفها، فما الوسائل التي وفرها الإسلام لقيام الإنسان مع نفسه واجب التزكية؟ عادة يقوم الكبار من الآباء والأمهات وغيرهم بمهمة تربية الصغار وتهذيبهم ويعتمدون في هذا على وسائل متنوعة؛ مثل: القدوة، والتوجيه، والنصح، والتعليم، والثواب والعقاب، وغير ذلك، فإذا كبر الصغار واستقلوا عن ذويهم انتهت مهمة التربية هذه، وصاروا ناضجين بدرجة تغنيهم عن تربية الآخرين.
ومع أن الحياة ومواقفها وما تمنحه لمن يخوض عبابها من خبرة تمثل مصدرًا رائعًا ودائمًا لتربية الإنسان، إلا أن الإسلام يضيف شيئًا مهمًا في هذا السبيل، يستعمله الإنسان مع نفسه بنفسه لتزكيتها وتهذيبها، ألا وهو الالتزام الحقيقي بالمعاني والمفاهيم والشعائر التي تضمنتها الشريعة الإسلامية.
ولو رحنا نعطي شيئًا من التفصيل في هذا الجانب، فلن تكفينا أضعاف أضعاف هذه السطور، ولذا سنكتفي بإلماحه سريعة تحقق المراد الأساسي من هذه السطور، وهو بيان أن الإنسان بعد أن يستقل عن ذويه، فإنه لا يستغني عن التربية والتهذيب والتأديب، بمعانيها الإيمانية والأخلاقية، وقد وضع الإسلام في يده أدوات تساعده على القيام بهذا مع نفسه.
وأهم ما تركه الإسلام في أيدينا نهذب به أنفسنا: مدارس الشعائر الكبرى (الصلاة والزكاة والصيام والحج)، وما يتفرع عنها من النوافل التي من أجناسها؛ كالصدقة وصلاة النافلة والعمرة وصيام التطوع، إضافة إلى الذكر وتلاوة القرآن.
نعم هي كلها مدارس لتهذيب النفس وتأديبها، وربطها بالله تعالى، وزيادة يقينها في الآخرة، وتقليل تأثير المادة والاختلاط بالناس في معاملاتهم الدنيوية على القلوب التي هي مرآة عاكسة تبدو عليها آثار الأعمال صالحة أو فاسدة.
إلا أن هذا لا يتحقق إلا إذا فتحنا أمام القلوب الطريق حتى تعيش ربيع هذه الطاعات، وتتذوق حلاواتها، وتفهم أن الحكيم سبحانه لا يمكن أن يكون قد شرع لعباده من خلال هذه العبادات حركات وأعمالًا عبثية وطقوسًا غامضة لا تهذب نفسًا، ولا تؤدب قلبًا، ولا تزكي فؤادًا.
إن الذي يصلي أو يزكي أو يصوم أو يحج أو يعتمر أو يذكر الله تعالى بدون أن يجد لهذه الأعمال تأثيرها أو شيئًا من تأثيرها الرائع: طهارة قلب، واستقامة خلق، وعفة نفس، وتنزهًا عن الفواحش، فكأنه ما صام ولا صلى ولا فعل شيئًا من هذه الطاعات!!
المسألة إذن مرتبطة بأن يعيش المسلم دينه معاني وحقائق، أن يدخل الصلاة باعتبارها تجربة لها معناها العميق وهدفها العظيم، من دوام الصلة بالله تعالى، والارتباط به ارتباط العبد الهارب إليه الملتجئ إلى جلاله، وأن يعيش الحج رحلة كبرى يخلف صاحبها الدنيا وراء ظهره، ويعيش مع مولاه وحده وسط الجموع الغفيرة عيشة الراجي رحمته، الطامع في عفوه، وأن يؤدي الزكاة أداء من باع لله مع النفس ماله، وتطهر من داء الشح ومرض البخل، وجاد على عباد الله ببعض ما جاد عليه به مولاه العظيم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا}(التوبة: 103)، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 18).
ولا ننسى أن الإنسان لا تغني عنه أدوات التطهير والتنظيف التي في الدنيا كلها ما دام لا يستعملها؛ سواء أدرك قيمتها أم لم يدركها، وكذلك حالنا مع دين الله تعالى وشريعته العظيمة.
الهوامش
- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم 7/462، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، الطبعة الثانية، دار طيبة – الرياض 1420 هـ / 1999 م.
- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/318، تحقيق: عبد الله التركي وآخرين، الطبعة الأولى، دار هجر – القاهرة 1422هـ / 2001م.
طالع ايضا : أهمية التدريب في اللغة الإنجليزية